السلام عليكم ورحمة الله
بادئ ذي بدء أعتذر من إخواني في هذا الركن مؤملا في صفاء نفوسهم و سعة صدورهم قبول عذري و الله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
معذرة يا ذا النظر **** عن ذا الذي مني صدر
صددت عن ذاك السفر **** من غير ما منع حضر
إلا الذي علمت من **** تقصيريا، بالصفح مُنّ
والشوق قد تهيجا ***** مؤملا ذاك الرجا
لابد من " عودة " وإن طال السفر
و قد اخترت لكم من منابع الدعوة الصافية الرقراقة ما أرجو من الله أن يكون المعين الذي لا ينضب في تقصي خباياها و الوقوف على حقيقتها و طبيعتها لينهل كل واحد منا من هذا النبع ما يروي ظمأه و يحيي موات نفسه لبعث بارقة الأمل من جديد في وعد الله لعباده المؤمنين
"إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم". "و يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله"
النفس المؤمنة
انتـقاء و تجميع العناصر المتميزة بالذكاء والشجاعة من الشباب ، ثم تربيتها تربية عميقة شاملة صلبة : ركنان أساسيان في خطة الحركة الإسلامية .
وإنه - كما يقول أبو الحسن الندوي - : " لا بد من إنتاج الرجال الذين يقومون بالدعوة ويديرون دفتها ، ويربون الرجال ، ويملئون كل فراغ . وكل حركة أو دعوة أو مؤسسة مهما كانت قوية أو غنية في الرجال فإنها معرضة للخطر ، وإنها لا تـلبث أن ينقرض رجالها واحداً إثر آخر ، وتـفلس في يوم من الأيام في الرجال " .
ولكن هذه التربية ليست اكتيال جزاف ، فإن أخص خصائصها أنها تلبي نداء الحاجات المرحلية ، وتعالج الواقع . وفي كل أدب أرشد إليه الإسلام خير ، ولكن طاقة ذي النية الصالحة محدودة ، فـواجب إقرار المفاضلة بين أجزاء هذا الخير ، والبدء بما هو أفضل ، وبما يسد حاجة المرحلة من بعد تشخيص النقص .
ذلكم هو الذي يوجب من بعدُ أن تتـفرس الحركة الإسلامية الحاضرة في نفسها فراسة خبرة ، في خلوة تأمل ، فتحدد نقصها ، وتحصي رصيدها ، ليأذن الله أن تصدق فراستها الأخرى في الناس ، وتحكم طريقها في هذا التصارع العنيف ، كما قال الزاهد الحكيم سمنون – رحمه الله – حين سئل عن الفراسة وحقيقتها ، فأجاب :
( إن من تـفرس في نفسه فعرفها : صحت له الفراسة في غيره و أحكمها ) .
وإنه لمعنى رفيع يكشف عنه سمنون في هذه الحروف القليلة ، ويخولنا إياه ، لنتخذه منطلقاً لفراسة نقدية نصف فيها أنفسنا و نحدد نقصنا ، ثم تحويل الفراسة إلى دراسة نسلكها ينابيع في صفوف الدعاة بإذن الله ، فيخرج بها دعاة ، يصدقون بالصدق الذي جاءهم عن ربهم ، و يحفظون أمره .
ولقد شهد التاريخ القريب لأجزاء الحركة الإسلامية بعداً عن الموازنة في أساليب التكوين والتربية ، وطغياناً في جوانب على جوانب أخرى ، فترى منطقة غلبة الجانب التعبدي وتـزكية النفس ، وفي أخرى ترفاً فكرياً ، وفي ثالثة ولعاً بالمشاركة في أحداث السياسة اليومية ، فاختـلفت الصياغات .
ومن حيثيات كثيرة يعرفها أهل المعاناة : بدأ يتضح الخط التربوي المتكامل الموزون ، المستدرِك للنقص ، وتحددت ملامحه في غرس معاني :
الحرص على الصلاة و تـثـبـيـت العقيدة .
والالتـزام بأدب الأخوة .
و الفرح بالبذل و التعب اليومي .
والشوق إلى الجهاد و الاستشهاد ، من دون تهور .
والانضباط بالطاعة .
و التـقـلـل من الدنيا وطلب الخِـفّـة .
و ترقب الموت ونسيان الأمل الدنيوي .
وحب الله تعالى ، في رجاء يضبطه خوف .
و مفاصلة الذين كفروا والذين نافـقوا .
والصبر على المحن .
فمن تحقق في هذه المعاني فهو الصلب الذي يصح أن يعتمد ضمن القاعدة الصلبة للحركة الإسلامية .
ويعجبني جداً وصف الشاعر التونسي أحمد المختار الوزير للنفس البريئة ، ورمز لها رمزاً ، جعلها كأنها فراشة ، واقترب كل الاقتراب من إدراك كمال الحقيقة ، تسوقه فطرته إلا أنه لم يمسكها ، وفاتَه أنه يصف النفس المؤمنة بأبلغ مما وصفها غيره ..
إنها تأسره إذ هي :
ساكنة ، في صَمتها ، أبْيَنُ ممّن يَنْطقُ
هكذا هي السيماء الإيمانية : وداعة ، و تفكّر ، و تأمل هادئ ، في إقلال من الكلام ، وبعد عن اللغو ، ولكن تحوطها هيبة مؤثرة ، وجَمال بليغ مفصح .
و إن وَنَتْ وَقْفَتُها : أعْجَلَها المنطلَقُ
فالوقفات سُنة من سنن الحياة ، وقدر مقدور على البشر ، إلا أنها عند المؤمن لن تكون استرخاءً وغفلةً و تمادياً أبداً ، بل هي تعتري برهة ، ثم تُجْليها محفَّزات كامنة ، من رصيد ذاتي مجموع أو تراث حكمة مركوز .
لكن الشياطين تعترض ، تحاول عرقلة هذا المنطلق ، توهم صاحبه ، وتضع العوائق الثـقال في صور من الزينة ، لها بهرج ، و تألق ، و بريق ، تغش النفس الهائمة ، ولكن النفس الملهَمة ، التي أُلهمت إيمانها ، ترى ما وراء ذلك من حقائق تفضح ما خفي من كبرياء مفتعلة ، أو حسد موسوِس ، أو صدارة متأخرة ، أو حب زيادة مال زائل . فذلك هو حوم الفراشة حول ومضات صورتها على سطح البحيرة .
أو هي تجربة النفس المؤمنة ..
لكم رأت خيالَها ، ماجَ به المنْبَثَقُ
كأنه النجمُ يرفُّ ، والمياه الأفقُ
فحوَّمَتْ ، ترنوا ، تَودّ لو به تّعْتّلِقُ
و أَوشكتْ ، لو لم تُفِق ، يقضي عليها الغرَقُ
لكنها مؤمنة ، هيهات ، لا تستحمِقُ
بين الضلال والهدى : يبدو لها المفترَقُ
نعم هكذا : المفترق واضح ، والاقتراب يفضح الصورة ، ويزيد الوضوح وضوحاً ، ويبين أنّ ما ظنته النفس تألقاً من على بُعد إن هو إلا اهتـزاز .
ولكن كيف النجاة مع هذا الاقتراب من موجة عالية تفجأ ، فتترك بَلَلاً يُثقِل ، إن لم يكن الغرق المتلف ؟
من هنا وجبت الموعظة ، وانبغى التحذير ، في كلام كمثل هذه الرقائق ، كي لا تهبط النفس المؤمنة ، إذ آمنت ، بشيء من رذاذ الاقتراب ، بل حياتها في السمو ، و نجاتها في العلو .
إنها قطعة من البيان نادرة أتى بها الشاعر ، و أهداها الناشئة ، لكنها حكمة المنتهين .
فانظر إشراقة القلب ولطف الإحساس في هذا الرمز المفصح عن طبائع النفس الزكية ، وانظر بمقابلة غلظ حجاب قلب شاعر ملحد يدعو إلى البهيمية ..
إنما العيشُ في بهيمة اللذة *********** لا ما يقوله الفلسفي
حكمُ كأس المنونِ أن يتساوى **** في حساها الغبي و الألمعي
و يصير الغبي تحت ثرى الأرض **** كما صار تحتها اللوذعي
فسل الأرضَ عنهما إن أزال **** الشكَّ و الشبهةَ السؤالُ الخفي
وواضح هنا أن هذا الملحد أشار إلى أن المعاني الحقة هي قول الفلسفي ، لا قول الواعظ المسلم ، ليتجنب في ظنه ما قد يكون من اتهامة بالمروق عن الدين .
قال أبو حيان التوحيدي : سمع أبو سليمان محمد بن طاهر السجستاني المنطقي هذه الأبيات فقال : " هذا النمط مفسدة للشباب الأغرار ، الذين ليست لهم بصيرة في الأمور ، وهم عبيد الاحساسات الوافدة بالعادات الفاسدة ، والاعتقادات الرديئة بتلقين قرناء السوء ، وقائل هذا قد عاند الدين ، وخلع ربقة الحياء ، و افصح عن الفساد ، وصَدّ عن الحكمة ، و قدح بزند الشبهة في النفوس الضعيفة ، والعقول الخفيفة .
يا مسكين : أَمِن أجل أن الصالح و الطالح و العالم و الجاهل صاروا تحت التراب : يتساوون في العاقبة ؟
أما تساوى قوم سافروا من بلد إلى بلد ، فلما بلغوا المقصد : نزل كل واحد في مكان معداً له ، وتُلقي بغير ما يُلقى به صاحبه ؟
أما دخل قوم داراً فأُجلس كل واحد منهم في بقعة بعينها وقوبل هذا بشيء و هذا بشيء آخر ؟
ثم تقول : سل الأرض عنهما ؟؟
قد سألنا و خبرتـنا : أنها ضمت أجسادهم و جثثهم و أبدانهم ، لا كفرهم و إيمانهم ، و لا أنسابهم و أحسابهم ، ولا حكمتهم و سفههم ، ولا طاعتهم و معصيتهم ، ولا أقوالهم وأفعالهم ، ولا يقينهم و شكهم ، ولا زهادتهم و تسبيحهم ، ولا معرفتهم و توحيدهم ، ولا خيرهم و شرهم ، ولا جورهم و عدلهم ".
..........................................................................................................................................يتبع
غــــــريبغريــــب ، وأوطاني تُداس وأمتي ***** تعاني وموج الظلم يشتد صائله
غريب، وهل في هذه الدار منزل؟ ***** لمن في سواها تستقر منازله
ألا ليت شعري يا بلادي متى أرى ***** خميساً من الأبطال سارت جحافله
يجَّمعنا شـرع حكيم وسنّة ***** فيبدوا لنا زيف الضلال وباطله
أقافلة الإسـلام هيا تحفزي ***** وسيري فإن الشر سارت قوافله
أيا أمتي ، قد يأنس المرء بالهـوى ***** ويشتاق للدنيا وفيها مشاغلُه
ويمضي مع الأيام يشدو بحبها ***** وفيها ولو يدري تقيم مقاتله
غريب ، أنختار الحياض ، وماؤها ***** غثاء وحوض الدين تصفو مناهله
وكم من صديق تحسب الخير قصده ***** فتبدو على مر الليالي مهازله
ومن سار في الدنيا بغير طريقـة ***** فقد بات والأوهام سم يداخله
تناول من الأغضان ما تستطيعه ***** ودعك من الغصن الذي لا تطاوله