..واختارت طريق الهاوية
كل ما فيها يدل على أنها فتاة تطرق أبواب العشرينات من العمر..وهبت من الخالق جمال السريرة قبل جمال الخلقة.. و منحها بهاء الطلة و خفة الظل،تراها كثيرة الحركة ظاهرة النشاط.. ترتسم على وجهها ابتسامة أخاذة لا تكاد تغادر ثغرها إلا نادرا.. تكتسي تصرفاتها حلة العفوية و عدم الاكتراث لأي عائق يحول بينها و بين روح الدعابة التي تملك. يدفعها صفاء نفسها للحديث مع من تعرف و من لا تعرف.. مجلسها يستمتع فيه الكبير و الصغير.. و لأنها تضفي عليه البهجة و السرور لا يملك من يزاول قلبه الكآبة و الحزن إلا أن ينصرف على خلاف ما كان عليه.
لو كنا في عهد القائل الذي قال: "البشاشة فخ المودة و المودة قرابة مستفادة" لكانت أوقعت الجميع في فخ مودتها لأن البشاشة تجري فيها مجرى الدم.أعتبرها عملة نادرة في زمن مفلس من أناس يعاشرون بالمعروف من هم حولهم..أناس يأخذون أكثر ما يمنحون..أناس غابت البشاشة من وجوههم و الألفة من صفاتهم.. يقابلونك فيصطنعون لك ابتسامة يدسون خلفها بغضا، و يتكلفون لك محبة يخفون وراءها ضغينة.- إلا من رحم ربي طبعا-.
يا إلهي كأن الدنيا بذلك تمخضت فأنجبت نوعين من البشر.. أحدهما يعانق جمالها بصفاء روحه و سمحة نفسه و آخر ينشد إلى كدرها الذي صنعته أفعال أناس يرتدون رداء مكر الثعالب من المخلوقات.
و للأسف أتى على هذه الفتاة صاحبة الروح الجميلة يوم التحمت فيه مع جماعة منهم..أقصد جماعة ممن تملك نفوس الوحوش الظالة المفترسة التي لا تعرف الشفقة و لا الرحمة.. تلتثم بأقنعة المودة و البشاشة و تنعكس من عيونهم أشعة الغيظ و الحقد.. اندمجت معهم لا تدري كيف؟.. لأنها ببساطة أوقعت في فخ الغدر فنحن في زمن يسهل فيه ذلك.. صوروا لها القبيح جميلا و المشين حميدا.. قادوها إلى طريق مظلم بظلمة المجهول المخيف لكنها كانت تراه هدوء يعانق الليل البديع .
سارت فيه ظانت منها أنها ستجد فيها كل ما هو جميل كروحها فانتهت إلى مكان تنتشر فيه الكهوف و الأغوار و الجبال الشامخة و الغابات الكثيفة يحف جوانبه أشواك دامية و أشجار تشبه في انتحائها عجوز شمطاء تشع عيونها شرا.. ترمي بأغصان متشابكة تريد أن تختطف كل من دنى إليها.. مكان بدأ يعلوه الضجيج و العجيج و صياح من سبقها إليه.. و العجيب أنها بطبيعتها الساذجة تلك ما زالت تخال نفسها وسط مكان خلاب فهوت و عشقت كل ما فيه
واصلت سيرها وتقدمها في ذلك الطريق المرعب.. و قابلتها فيه كل مناظر الهلع و الخوف و التوتر.. غير أنها أصرت و شاءت إلا أن تكمل..حتى ترآء إليها من بعيد مكان مختلف عما وقعت عليه عينيها من بداية هذا الدرب..مكان يكسوه شيء من النور و يزاوله صمت رهيب يتخلله صوت شبيه بصوت ماء ينسكب من علو ما .
و لأن الإصرار لم يجد سبيلا إلا أن يأخذ بطريقه إليها ليقودها إلى حيث ما لا يحمد عقباه و الفضول أبى إلا أن يدفعها إلى ما يسمى بالهلاك.. واصلت وملامح الذعر بدأت ترتسم على وجهها.. ربما لأنها بدأت تحس بوحشية المكان و خطورة ما آلت إليه و بدأت فكرة الرجوع تحوم في ذهنها.. لكن بعد ماذا؟.. بعد أن أصبح لا ينفع الرجوع و لا حتى التفكير فيه..فقد زلت قدمها لأنه كان طريق زلق منحدر و بدأت تغوص في وحله محاولة العودة و الخلاص منه.. لكن دون جدوى..لم تجد من يمد لها يد العون بالرغم من أن هناك من سمعها تصرخ طالبة النجدة ورآها تهلك باسطة يد الغوث.. لم يحرك أحدهم ساكن و اكتفى كل منهم بغض الطرف عنها و هي تضيع.
أجل صرخت و نادت و تمنت العودة من حيث جائت.. و النجاة مما هي فيه.. الآن فقط خافت و ذعرت و أيقنت رعب المكان الذي آلت إليه..الآن فقط علمت أنه لم يعد للندم أي سبيل و للحسرة أي مكان.
استمر انزلاقها خطوة بعد خطوة حتى أدركت آخره.. إنها حافة الطريق.. إنها الهاوية.
الآن اكتمل يقينها لأنه لا مجال للالتفات إلى الخلف..امسكت بغصن إحدى الأشجار كان متدليا.. كأنها تريد التشبيت بالحياة و بأضعف أمل فيها.
و في لحظات كوميض البرق مر على ذهنها شريط حياتها يتفاصيله.. أخذت تردد من خلاله في نفسها.. أي العالم هذا؟.. و أي نفوس تلك؟.. و أين هم الآن؟.. أكانوا يدرون مصاعب هذا الطريق؟ لماذا قادوني إليه؟.. أين أولائك الذين كنت أحبهم احسبهم كانوا يحبونني؟.. لماذا لم ينصحني أحد و يمنعني؟..
أسئلة كثيرة أمطرت بها فكرها.في لحظات قلائل.. أرادت أن تشفي بعضا من غليل نفسها لأنها تدرك حقيقة لا تزر وزارة وزر أخرى... كانت تعلم أن ما وصلت إلى هنا إلا بملىء إرادتها حتى و إن وجدت أجوبة لكل تلك الأسئلة.
وقبل أن تنهك قوها الأخيرة و تهوي و تلتقطها بذلك أيادي السيل الجارف من تحتها أبت إلا أن ترسم على وجهها ابتسامة عريضة تخفي وراءها سرا أرادته أن يصحبها إلى حيث غادرت.