الــــــــــسلام عليـــكم و رحـــمة الله و بركـــاته
بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على خاتم المرسلين سيدنا محمد و على آله و صحبه و من تبعه الى يوم الدين
وبعد :
من حكمة الله ـ عز وجل ـ أنه جبل الإنسان على حاجات نفسية تساعده على البقاء، وتحميه من الهلاك، ويتعدى دورها في أحيان كثيرة إلى الحماية من الانحراف والضياع.
وهذه الحاجات قد تكون ظاهرة ومعلومة للجميع، مثل: الحاجة إلى الغذاء أو الحاجة إلى النوم ونحو ذلك؛ إلا أن الكثير من الحاجات النفسية المؤثرة في حياة الإنسان لا تكون معلومة إلا للمتخصص مما يعظم دوره في النفع العام وخدمة المجتمع، ويُعْظِم كذلك المسؤولية الواقعة على كاهل كل منا في تثقيف الذات ورفع مستواها في المجالات المؤثرة في مسيرتها في الحياة.
ومن رحمة الله بعباده أن جعل بعض السلوكيات والعادات الإنسانية خادمة لاحتياجات كثيرة ومتعددة في وقت واحد، بل من رحمته أن جعل هذه الحاجات متداخلة ويشبع بعضها بعضاً.
ومن الطباع البشرية المشبعة لاحتياجات نفسية متعددة: الأسرة؛ فهي مغذية لحاجة الأبوة والأمومة والحب والحنان ، والخبرة والتقدير والمسؤولية والسلطة الضابطة والانتماء والإنجاز؛ إلى آخر القائمة من الحاجات. وليس هدفنا من هذا المقال تفصيلها وبيان كيفية إشباعها، بل الهدف بيان السمات الأسرية المعينة والمحققة للدور الأسري الفعال.
ولعلنا نذكر تلك السمات على شكل نقاط فيكــون أوضـح للمراد وأخصـــر للمقال، ولا يعني ترتيب السمات تسلسل الأهمية، بل كل السمات مهمة، وتوافرها متكاملة يعطينا المناخ الأسري السليم، وبحسب النقص فيها يحصل الخلل في مناخ الأسرة:
■ السمة الأولى: تتسم عملية التأديب والتربية في المناخ الأسري السليم بالإيجابية:
وجوانب الإيجابية هنا متعددة، ومن ذلك:
1 - الحب والقبول غير المشروط:أخرج الشيخان عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قَبَّلَ النبي -صلى الله عليه وسلم - الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ فقال الأقرع بن حابس: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحـداً. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «من لا يرحم لا يُرحم».
التقبيل ما هو إلا مؤشر من مؤشرات الحب والرحمة من الوالد لولده، ودلائل هذه المحبة كثيرة ومتعددة، والأصل ظهورها من الوالد لولده ومعرفة الولد لها، والبعد عن وضع الشروط والمقاييس لمنح هذه المحبة للولد. والشرط الوحيد الذي من الممكن دخوله في هذا الأمر هو القرب والبعد عن الإسلام أو الطاعة كما في عقيدة الولاء والبراء؛ فهذا المقياس يدخل فيه جميع الخلق سواء كانوا من الأقارب أو الأباعد؛ ولــذا قـال الله ـ عز وجل ـ لنوح ـ عليه السلام ـ الأب الذي يرجو ربه أن ينقذ ابنه من الغرق: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإنَّ وَعْدَكَ الْـحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْـحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِـحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْـجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وإلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْـخَاسِرِينَ} [هود: 45 - 47].
فمن القوة في التفريق والإبعاد نفي كونه من أهله، والسبب في ذلك الفرق الاعتقادي بين الوالد وولده.
أما في غير هذا الشرط فالأصل أن يُعطَى الولد مطلق المحبة، ولا نقيدهـا بنجاح أو إخفـاق، ولا بموافقـة أو مخالفة، ولا بحسن مظهر أو سوئه. يقول الدكتور عبد الكريم بكار: «يحبنا أطفالنا؛ لأننا نقدم لهم حباً غير مشروط، وهذا ما علينا أن نفعله؛ فالأولاد هدية من الله ـ تعالى ـ وعلينا أن نتقبل تلك الهدية مهما كان شأنها».
ويقول الدكتور كمال دسوقي: «يحتاج الأطفال من الناحية الانفعالية أول ما يحتاجون إلى الشعور بالأمان العاطفي؛ بمعنى أنهم محبوبون كأفراد ومرغوب فيهم لذاتهم وأنهم موضع حب وإعزاز الآخرين».
وتقول الدكتورة هدى قناوي: «ولا شك أن تقبُّل الطفل غير المشروط على ما هو عليه يؤثر في فكرة الطفل عن نفسه، وتوجد علاقة وثيقة بين تقبل الذات وتقبل الآخرين، ومن ثم يمكن القول إن تقبل الطفل على ما هو عليه يعزز إيجابية مفهوم الفرد عن ذاته وتقبله لها وتكيفه مع الآخرين مما يؤثر في النهاية على سلامة صحة الطفل النفسية»).
ولا يعني الحب غير المشروط التسليم بالأخطاء، بل السعي لعلاجها بالطرق التربوية الإيجابية مع توافر ذلك الحب.
2 - التركيز على الإيجابيات: يقول علماء الهندسة النفسية: «ما تركز عليه تحصله»، وهذا الأمر ينطبق على النظرة إلى الذات وكذلك النظرة إلى الآخرين، ومنهم أعضاء المجتمع الأسري. فتركيز النظرة على الجوانب الإيجابية في أعضاء الأسرة يزيل بالتدريج ـ ومن غير أن نشعر ـ الجوانب السلبية لديهم. عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «لا يَفْرَكْ مؤمن مؤمنة إن كره منها خُلُقاً رضي منها آخر»، فلا يخلو إنسان من إيجابيات تستحق التشجيع والثناء، وهذا التركيز هو نوع من أنواع التعزيز للصفة الإيجابية مما يوسع دائرة الإيجابيات على حساب دائرة السلبيات. يقول الدكتور عمر المفدى خلال كلامه عن تكوُّن مفهوم الذات لدى الأطفال: «أما كيف تنشأ هذه الأفكار التي تشكل مفهوم الذات؟ فإنها تنشأ من خلال ردود أفعال الآخرين تجاه الشخص أو تجاه سلوكه؛ فالطفل الذي يكرر عليه الآخرون أنه جيد وحلو وذكي وغيرها من الصفات الإيجابية من المتوقع أن يتجه مفهومه عن ذاته للإيجابية؛ بينما الطفل الذي يكرر على مسامعه بأنه طفل سيِّئ أو شرير أو غبي وغيرها من الصفات السلبية؛ فمن المتوقع أن يتجه في مفهومه لذاتهنحو السلبية». ومن مشاكل النظرة السلبية أنها لا تؤثر على المتربي أو الآخر فقط، بل تؤثر على نفس المربي فتجعله يغفل أو لا يستطيع أن يرى الإيجابيات، بسبب الغشاوة التي وضعها على عينيه لعدم عدله بالتركيز؛ ويوافق هذا الأمر قول الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا