السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، وعلى آله وصحبه ومن اتّبع هديه، أمّا بعد:
آبائي الكرام، إخواني الأعزّة، أبنائي الأحبّة، بين أيديكم موضوع جديد من المواضيع المقترحة، عسى أن يكتب الله به النفع لمن شاء، إنّه لطيف كريم.
﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا . وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.
﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾.
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾.
والعبادة هي: أن يَتَذَلَّل الإنسانُ لرَبِّهِ بامتثالِ أَمْرِه واجْتِنَابِ نَهْيِهِ مَحَبَّةً له وتعظيمًا.
إنّ الله تعالى خَلَق بني آدم لمّا خَلَقهُم مُقِرِّين بالله تعالى وتوحيده وطاعته، فوَسوَسَت لهم الشياطينُ، فصَرَفَتهُم عن اللهِ وعن دينه القويم
«وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا... ».
« مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ... ».
ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ ﴿فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾ الآيَةَ.
فأنزل الله تعالى الكتب، وأرسل الأنبياء والرسل، ليبيّنوا للناس صراط الله المستقيم، ويحذّروهم من اتّباع سبل الغواية والشياطين
﴿ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ﴾.
﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾.
وآخر من أرسل الله تعالى من الأنبياء والرسل محمّد –صلّى الله عليه وآله وسلّم-
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾.
﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾.
فأنزل الله تعالى على محمّد –صلّى الله عليه وآله وسلّم- كلامه، قرآنا وبيانا لكلّ شيء وحجّة على العباد أجمعين
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلاً﴾.
﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾.
فالقرآن يبصّر الناس، وفيه الهدى والرحمة لمن آمن به وأيقن
﴿هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.
´بصائر` أي: حجج وأدلّة تبصّر الناس بالحقّ من الباطل، وبالخير من الشرّ.
والقرآن مبارك، وقد أمر الله تعالى باتّباعه لمن أراد رحمة الله
﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.
´مُبَارَكٌ` أي: كثير البركة والنفع والخير، فما من خير إلاّ وقد دعا إليه ورَغَّب فيه، وذَكَر الْحِكَمَ والمصالِحَ التي تَحُثُّ عليه، وما من شرٍّ إلاّ وقد نهى عنه وحَذَّر منه، وذَكَر الأسباب الْمُنَفِّرَة عن فِعلِه وعَواقِبَها الوخيمة.
والقرآن نورٌ وبيانٌ وهداية لمن أراد مرضاةَ اللهِ تعالى
﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.
قال الشيخ عبد الرحمان السعدي:
﴿ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ ﴾ وهو القرآن، يُستَضاءُ به في ظُلماتِ الجهالةِ وعُميانِ الضلالةِ.
﴿ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ﴾ مُبَيِّنٌ لكلِّ ما يحتاجُ الْخَلْقُ إليه مِن أمورِ دينِهِم ودُنياهم، من العِلمِ بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومِن العلمِ بأحكامه الشرعية وأحكامه الجزائية.
ثمّ ذكر مَنْ الذي يهتدي بهذا القرآن، وما هو السبب الذي يَجِبُ أن يكونَ من العبدِ لحصولِ ذلك، فقال: ﴿ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ﴾ أي: يهدي به مَن اجْتَهَدَ وحَرِصَ على بلوغِ مرضاةِ اللهِ، وصار قَصدُهُ حَسَنا.
´سبل السلام` أي: الطُّرُقُ التي تُسَلِّمُ صاحبَها من العذابِ، وتُوصِلُهُ إلى دارِ السلامِ، وهو العِلمُ بالحقِّ والعملُ به.
﴿ وَيُخْرِجُهُم مِّن ﴾ ظُلماتِ الكُفرِ والبدعةِ والمعصية والجهل والغفلة، إلى نُورِ الإيمان والسُّنَّة والطاعة والعلم والذِّكْرِ.
وكلّ هذه الهداية ´بإذن الله`، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
قال في ´أيسر التفاسير`:
﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ لا يَضِلُّون معه، ولا يَشقَوْنَ أبداً، وهو دينُهُ الحقُّ، الإِسلامُ الذي لا يَقبَلُ دِيناً غيرَه، والذي ما اهتدى مَن جانَبَهُ، ولا سَعِدَ ولا كَمُلَ مَن تَرَكَه.
قال الشيخ عبد الرحمان السعدي:
´الصراطُ المستقيمُ`: الدِّينُ المعتَدِلُ الْمُتضَمِّنُ للعقائدِ النافعةِ، والأعمالِ الصالحةِ، والأمرِ بكلِّ حَسَنٍ، والنهيِ عن كلِّ قبيحٍ، الذي عليه الأنبياء والمرسلون.
والقرآنُ رُوحٌ ونورٌ، والرسول يهدي إلى صراط الله تعالى
﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾.
قال الشيخ عبد الرحمان السعدي:
﴿ وَكَذَلِكَ ﴾ حين أَوْحَيْنَا إلى الرُّسُلِ قَبْلَكَ ﴿ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ﴾ وهو هذا القرآن الكريم، سَمّاه: ´روحا`، لأنّ الروحَ يَحيَا به الجسدُ، والقرآنُ تَحيَا به القلوبُ والأرواحُ، وتَحيَا به مصالحُ الدنيا والدِّين، لِما فيه من الْخَيْرِ الكثيرِ والعِلمِ الغَزِيرِ...
﴿ ولكن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ يَستَضِيئُون به في ظلماتِ الكُفرِ والبِدَعِ، والأهواءِ الْمُرْدِيَةِ، ويَعرِفُون به الحقائقَ، ويَهتَدُون به إلى الصراط المستقيم.
﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ أي: تُبَيِّنُ لهم الصراطَ المستقيمَ وتُوَضِّحُهُ، وتُنِيرُهُ وتُرَغِّبُهُم فيه، وتَنهَاهُم عن ضِدِّهِ، وتُرَهِّبُهُم منه، ثمّ فَسَّر ´الصراط المستقيم` فقال: ﴿ صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ﴾ أي: الصراطِ الذي نَصَبَهُ اللهُ لعبادِه، وأَخبَرَهُم أنّه مُوصِلٌ إليه وإلى دارِ كرامته، ﴿ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأمُورُ ﴾ أي: تَرجِعُ جميعُ أمورِ الخيرِ والشرِّ، فيجازِي كُلاًّ بِحَسَبِ عَمَلِه، إن خيرا فخَيْرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ.
[b]