السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إخواني الفضلاء، وأحبّائي الكرماء ؛
يسرّني أن أقترح عليكم هذا الموضوع، المنس|ق على شكل خطبة عساه يكون أقرب للانتفاع، والله الموفّق وخير معين.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، وعلى آله وصحبه ومن اتّبع هديه، أمّا بعد:
آبائي الكرام، إخواني الأعزّة، أبنائي الأحبّة.
يقول الله تعالى:
﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا . وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.
ويقول:
﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾.
يُخبِرُنا ربُّنا تعالى أنّ هذا القرآنَ العظيمَ يهدي إلى أَقْوَمِ طريقٍ وأَعدَلِها، وأنّ فيه الهدايةَ والرحمةَ والبُشرَى الحسنةَ للمسلمين، وأنّ فيه بيانَ وتفصيلَ كلِّ شيء.
فيه بيانُ كلِّ ما يحتاج إليه الناسُ لصلاحِ دِينِهِم ودنياهم.
ففيه بيانُ الْخَيْرِ والْهُدَى والدعوةُ إليهما، وفيه بيانُ الشرِّ والرَّدَى والتحذيرُ منهما.
فيه ذِكرُ الْخَيْرِ كلِّه، أبوابِهِ ومفاتِحِه، أصولِهِ وفروعِه.
وفيه ذِكرُ الشرِّ كلِّه، أبوابِهِ ومفاتِحِه، أصولِهِ وفروعِه.
فالسَّعيدُ من اتَّبَع كتابَ اللهِ العظيم، وسار على صراطِهِ المستقيم، وتَمَسَّكَ بِحَبْلِه الْمَتِين.
والشَّقِيُّ مَن أَعرَضَ عن ذلك كلِّه، وأَتْبَعَ نَفسَهُ هواها، وسار على سُبُلِ الشَّرِّ والغِوايَةِ.
أبي العزيز، أخي الكريم ؛
إنّ هذا القرآنَ الْمجيدَ بَيَّنَ الْخَيْرَ كلَّه، بَيَّنَ كلَّ ما فيه صلاحُ العبادِ في الحالِ والْمَآلِ، فَبَيَّن الشرائعَ والأحكامَ، بَيَّنَ أنواعَ الحلالِ والحرامِ، وبَيَّنَ أنواعَ الْبِرِّ والإحسانِ، وبَيَّنَ كثيرا من الأعمالِ الموجباتِ لأَِعالي الْجِنانِ.
لكن مِمَّا يَتَمَيَّزُ به كتابُ اللهِ تعالى، ومِمَّا يَدلُّ على إعجازِهِ وكَمالِهِ؛ أنّه ذَكَرَ أبوابَ الْخَيْرِ ومفاتِحَه، ذَكَر أجناسَه وأصولَه، لم يَكْتَفِ بِذِكْرِ أنواعِهِ وتفاصيلِهِ، بل ذَكَر مِن ذلك قَدْرًا كافيًا شافيًا، وذَكَرَ معه أصولاً يَندَرِجُ تَحتَها كلُّ خَيْرٍ على الإطلاق.
فما ذُكِرَ مُفَصَّلاً في القرآن؛ فهو دالٌّ على فضيلَتِهِ وخَيْرِيَّتِه ولُزُومِه، كالصلاةِ والذَّبْحِ والنَّذْرِ والإحسانِ إلى الوالِدَيْن وإلى الجارِ وما إلى ذلك.
وما لَمْ يُذكَرْ على هذا النَّحْوِ فهو يَندَرِجُ تحتَ أصلٍ عامٍّ مِن أُصولِ الْخَيْرِ المذكورةِ في القرآنِ الكريم.
من ذلك قوله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.
فالله تعالى يَأمُرُ بكلِّ عَدْلٍ، وينهى عن كلِّ ظُلم، بل ويَأمُرُ بكُلِّ ما فيه إحسانٌ إلى الناسِ، بل إلى البهائم، ويَنهَى عن كلِّ فحشاءٍ ومُنكَرٍ وبَغْيٍ.
ومنه قوله تعالى:
﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾.
فاللهُ تعالى يَأمُرُ بكلِّ ما هو معروفٌ وخَيْرٌ، ويَنهَى عن كلِّ ما هو مُنكَرٌ وشَرٌّ، ويُحِلُّ كلَّ طَيِّبٍ نافعٍ، ويُحرِّمُ كلَّ خبيثٍ ضارٍّ.
وغيرُ ذلك من الآياتِ كثير.
ومِنَ الآياتِ الكريماتِ التي تَضَمَّنَت أصلاً مِن أصولِ الْخَيْرِ، وبابًا مِن أبوابِه، ومِفتاحا من مَفاتِحِهِ قولُ اللهِ تعالى:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾.
أي: ما أَوْجَدتُّهُم بعد العَدَم إلاّ لهذه الحكمةِ العظيمة، وهي: عبادةُ اللهِ تبارك وتعالى، وَحدَهُ لا شريكَ له، لَم أَخلُقْهُم لأجلِ أن يَنفعوني بِطاعَتِهِم، ولن يَضُرُّونِي بِمعاصِيهِم، ولا أَنْ يُطعِمُوني، ولهذا قال: ﴿ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ﴾، يعني: ما أَطلُبُ منهم رزقاً، أي: عطاءً أَنتَفِعُ به، ولا أَن يُطعِمُونِ فأَنتَفِعَ بإطعامِهِم.
فالحكمة إذن مِن خَلقِ الْجِنِّ والإنسِ؛ العبادة، فلم يَخلُقْهُم سبحانه وتعالى لِمُجرَّدِ عمارةِ الأرضِ وعَيشِ عَيْشَةَ الحيوانِ، أو تَكثِيرِ البناتِ والوِلدَان، ولا للتسابُقِ والتَّفَوُّق على الأصحاب والأقران، ولا لإِفناءِ العُمُر في العَمَل وكسبِ الأموالِ والْجِنانِ، ثمّ التَّفَنُّن في إنفاقه في أنواع الْمُلهِيَات والعصيان، ولم يَخلُقْهُم لتَشيِيد البُينَان، ولا لاتّخاذِ الخليلاتِ الْحِسانِ، لم يَخلُقهُم لِمُشاهدةِ الأخبارِ والأشرطةِ والبرامجِ والأفلامِ، ولم يَخلُقْهُم لِلَّعِبِ والزَّهْوِ واللَّهْوِ والْهَذَيَانِ، لم يَخلُقْهُم لقَتْلِ الوَقتِ وتَضيِيعِ الأزمانِ في التِّجوَال والْمُزاحِ وشُربةِ فِنجانٍ، ولا ولا...
وإنّما خُلِقُوا لعبادةِ اللهِ، وما في الدنيا مِنَ الْمَتاعِ والنِّعَمِ والْمَكاسِبِ إنّما خُلِقَ لَهُم، وسُخِّرَ لَهُم، رَحْمَةً مِن رَبِّهِم، وعَوْنًا لهم لِمَعرِفَتِهِ وحُسْنِ عِبادتِهِ سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾.
فاحْذَرْ أخي الكريم أن تَقَعَ بلا عِلْمٍ ولا قَصْدٍ فيمن قَصَّ اللهُ تعالى علينا قولَهُم حين قال:
﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾.
وفي قوله:
﴿أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾.
أي: أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ مُهمَلاً، لا يُؤمَرُ ولا يُنهَى، ثمّ يُترَكَ في قَبرِهِ لا يُبعَثُ ولا يُسأَلُ.
فاعلم أخي أنّ اللهَ تعالى أَنكَرَ هذا القولَ وتَوَعَّدَ مَن ظَنَّهُ أوِ اعْتَقَدَهُ، حيثُ قال تعالى:
﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ . فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾.
أي: أَفَظَنَنْتُمْ أَنَّما خَلَقنَاكُم على وَجْهِ الْعَبَثِ واللَّعِبِ، بلا قَصْدٍ ولا إرادةٍ مِنكُمْ، وَلاَ حِكْمَةٍ لنا ؟! سبحان الله عمّا يصفون، وتعالى عمّا يقولون.