خلق الله سبحانه القلب البشري سريع التقلب والنسيان، فقد تراه مضيئا شفافاً فائض الإيمان, وما تلبث أن تراه قد طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكر، فيتبلد ويفتر رويداً رويداً حتى تنطمس إشراقته ويخبو نوره فيظلم ويقسو.
وهاهم الصحابة وهم في عهد النبوة والوحي ينزل عليهم قال الله تعالى لهم: { ألم يأن للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق.........} ولم يمضِ على إيمانهم سوى أربع سنوات فكيف بنا ونحن في زمن الملهيات والفتن ؟!! ... فما أن نحاول التخلص من فتنة إلا وتأتي مرققتها تليها...
والدعاة هم أحوج ما يكونون لتربية النفس والعناية بأعمال القلوب والرقائق وكل ما يقوي الصلة بالله عز وجل؛ ليشرق الإيمان في دعوتهم وفي أفعالهم وأقوالهم حتى هيئتهم وسمتهم الظاهر والباطن !! ..
فالتربية الإيمانية هي تلك التربية التي تعلق القلب بالله تعالى، وتخلّصه من عوالق الدنيا وزخرفها وقوتها وحولها إلا بالله عز وجل, فهي تطهر القلب وتزكيه فلا يكون له تعلق بمال أو جاه أو سلطان أو رفعة أو مكانة أو شهرة, فما تلبث أن تنبه صاحبها وتتعاهده حتى يستقيم ويصلح قلبه ويحقق العبودية لله، فيخلص في عمله ويربأ بنفسه عن العجب والرياء، فلا تراه إلا ذاكراً مذكرا ..
فهي تربية شاملة تطهر القلب وتُزكّي السلوك ... وكم يتعجّب المتعجّب حين يقرأ في سيرة أحد السلف فيجد عبارة ( .. إذا رأيته تذكر الله ! ) ...أو ( رؤيته تذكر بالله ..! ) ونحو هذه العبارات .. وقد جاء في الأثر : ( أولياء الله من إذا رؤوا ذُكر الله !! ) وما هذا إلا إنعكاس لهذه التربية الإيمانية التي تظهر آثارها وأنوارها على أرض الواقع !! .. فأين حالنا من حال أولئك والله المستعان ؟؟!! ..
إن صاحب الإيمان هو ذاك الذي يظهر أثر إيمانه وعلمه على سلوكه وخلقه .. فيصبح القدوة الحسنة المرتضاة بين عامة الناس .. بعيدا عن صفات صاحب الهيئة والبزّة ( المتحذلق المتمذلق ) !!
وكم تجد نفسك منساقاً متأثراً بكلام خطيب أو محاضر وأنت تسمع له من خلال ( مذياع ، أو تقرأ له في مكتوب ) من غير أن تراه ، فتشعر بصدق كلماته ، وكيف أنها تخالج القلب فتجد إليه سبيلاً !
ترى هل ذلك من بلاغة اللفظ وجزالته ؟!
أم تراه لجودة الخط وحرفه ؟!
لا أجدك إلا أن تقول أنك تقرأ الصدق في كلماته ، وتشعر بنور الإيمان ينبثق من كلماته ورجعات صوته .!
وهذا يذكرنا مقولة الخليفة الإمام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: (( "ق" .. هي : "ق" ! لكن القارئ غير القارئ !!)) - يعني بذلك سورة "ق" -
والسيف بضاربه كما يقال ..
والداعية الذي ربى نفسه تربية إيمانية تراه منجزاً في أعماله، عالي الهمة، لايؤمن بالتأجيل، يسعى دائماً الى إكمال ذاته فهو يقوي نفسه عملياً وعلمياً ويسعى جاداً في تغيير مجتمعه ومن حوله فهو ينجز إنجازا متقناً .. لأنه لا ينتظر أجرا دنيوياً ، ولا ثناءً عطراً ، ولا مكانة مرموقة .. إنما ينتظر وعد الله ، فهو يبني لآخرته لا لدنياه .. ومن هنا تراه متقناً محسناً . لأنه مؤمن مصدق بـ ( ما عندكم ينفد وما عند الله باق ) !
ولأن الإيمان خالط بشاشة قلبه فهو لا يرضى بأجر عاجل فيسارع الإنجاز من غير إتقان ليحوز أجرته !!
إنما يخطو الخطى واثقاً بالله .. ولو كانت أعماله في نظر الآخرين لا تذكر !! فرب درهم سبق ألف درهم !
سريع التأثر، قلبه لين و حسه مرهف ، ونفسه شفافة ..تتأثر بالموقف والكلمة ..
وتعرف معاني الأمر والزجر .. فتأتمر وتنزجر ... نفس تعطف على الصغير ..وتحنو على الضعيف.. إذا ذُكّر ذكر ، وإذا نسي استغفر !!
ثابت مداوم على عمله فبرغم اشتداد أعاصير الفتن ، ومدلهمات الظُلم .. فهو لا يزال ثابتاً راسخاً ,يتساقط الأدعياء من حوله .. وهو كالنخلة الشمّاء في يوم عاصف !!
ثم هو لا يكتفي بالثبات .. بل يزيد الثبات دواماً واستمراراً دؤوباً في العمل ..
يحرص على غرس الإيمان في نفوس الأفراد فهو يستثير عواطفهم ويخاطب قلوبهم مبتعداً عن العقليات المجردة التي لا تزيد الناس إلا بعداً وضياعاً.. مستمداً ذلك من القرآن وسائراً عليه وفق منهج النبوة حيث تنمي هذا الجانب عند المسلمين في أي أمر من أمور الشرع....
وما انصرف الناس عن هذه التربية إلى الذات والآخرين إلا لأن هذه التربية كانت قد ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالتصوف فصارت جل كتب الرقائق شارحة للتصوف سائرة على قواعده فابتعد الناس عنها خوفاً من الوقوع في البدع فنتج عن ذلك جفاف في العاطفة وصحراوية روحية ، وهذا داء عضال وصارف من تلبيس إبليس على الأمة والا فالتربية الإيمانية هي أصل التربية...
وكذلك التعمق في المسائل والخلافات العلمية مما يشغل الداعية عن إصلاح نفسه وتربيتها على الرقائق والإيمانيات التي تجعلها أكثر تعلقاً بالله والخلافات الفقهية قد تجعل في القلب قسوة يجدها من عاش هذا الحال ..
وكذلك فإن للبيئة أثرها في صرف الناس عن التربية حيث كثرة الشهوات والملهيات والفتن و الخلطة بلا هدف أو فائدة فيطول الأمل ويظل الإنسان مسوفاً منشغلاً عن التوبة .. حتى يقسو قلبه ويتراكم عليه الران..
ومن أعظم ماينمي هذه التربية عند المؤمن بعيداً عن الوقوع بالمحظور والسير على منهج المتصوفة هو تدبر العبد للقرآن، فيقف عند معانيه ويعرف أحداث تنزيله ويحصي مافيه من أسماء الله وصفاته جل شأنه، فيقف عندها ويدرسها دراسة إيمانية بعيدة عن مهاترة الفرق والطوائف الضالة منتهجا بذلك منهج السلف الصالح متخذاً منه معيناً له على رسم طريقه ومواجهة العقبات فإن القراءة في سيرهم تبعث في النفس قوة وإيماناً .
فما أحوج الدعاة في زمن الفتن إلى مثل هذه التربية التي تورث ثباتاً يوم تتهافت شعارات الأدعياء ..